هل الحياة الشعورية مطابقة للحياة النفسية ؟ الاستقصاء بالرفع

هل الحياة الشعورية مطابقة للحياة النفسية ؟ الاستقصاء بالرفع
طرح المشكلة : الشعور هو الذي يجعلنا نعي أحوالنا النفسية ويطلعنا على كل ما يوجد بداخلها فتكون حياتنا النفسية موضوع معرفة كاملة بالنسبة لنا هذا هو الاعتقاد الذي كان سائد قديما غير أن هناك حوادث متعددة في الحياة النفسية لا يمكن تفسيرها تفسيرا مقنعا بمجرد ربطها بسوابقها الشعورية وبهذا بدا التأكيد على فكرة وجود اللاشعور وهذا ما يدفعنا إلى الشك في صدق الأطروحة القائلة بان الحياة النفسية مساوية للحياة الشعورية. فكيف يمكن إبطال هذه الأطروحة؟
التحليل
عرض منطق الأطروحة : يعرف لالاند الشعور بأنه: "حدس الفكر لأحواله و أفعاله" فالشعور هو الوعي الذي يصاحبنا عند القيام بالأعمال. يرى أصحاب النظرة الكلاسيكية أن الشعور مبدأ وحيد للحياة النفسية، فالنفس تعي جميع أحوالها إذن الشعور والحياة النفسية مفهومان متكافئان. فالنفس لا تنقطع عن التفكير إلا إذا تلاشى وجودها فالشعور معرفة مباشرة أولية مطلقة فلا واسطة موجودة بين الشعور و الحياة النفسية. إذا شعرت بحالة ما كان شعوري بها مطلقا أشعر بها كما هي لا كما تصورها لي حواسي. ولذلك فالشعور يتسع لكل الحياة النفسية فمن تناقض القول بان النفس تشعر بما لا تشعر فهي تشعر لان الحادثة التي تشعر بها موجودة أما إذا كانت الحالة النفسية غير موجودة فيستحيل الشعور بها. إذن الحياة النفسية كلها شعورية.
رفع ( إبطال) الأطروحة وجود شفافية كلية بين ما يحدث بداخل أنفسنا و علمنا بها ليس له أي دليل على صحتها، فنحن لا نستطيع أن نتأكد أن حياتنا النفسية معروفة معرفة كلية. فهناك حوادث متعددة في الحياة النفسية لا يمكن تفسيرها تفسيرا مقنعا و أهملها أصحاب هذا الطرح و اعتبروها غير جديرة بالدراسة النفسية أو فسروا وجودها بنوع من المصادقة تخضع لها، غير أن العقل لا يقتنع بأي تفسير يستند إلى المصادقة و العقل يعتقد أن كل شيء يحتاج إلى علة كافية لحدوثه بيد أن الفرد لا يكون لديه أي شعور بهذه العلة. هذا ما جعل فرويد يفترض جملة من الأحوال النفسية تأثر في سلوك الفرد بطريقة غير مشعور بها وتوجد في منطقة عميقة من النفس سماها اللاشعور. ودلت تجاربه هو و بروير على وجود علاقة سببية بين حياتنا النفسية اللاشعورية والأعراض العصبية.
نقد منطق المناصرين للأطروحة : ديكارت يجع لمن الشعور و الحياة النفسية مفهومان مترادفان فالحياة النفسية عنده تساوي الشعور و الشعور يساوي الحياة النفسية، فهو يرفع من مكانة العقل و يرفض فيه أي غموض و العقل عنده هو " كل ما يحدث بداخلنا بالطريقة التي نتلقاها بها." ويؤكد بأن النفس لا تنقطع عن التفكير إلا أذا تلاشي وجودها.
أما برغسون فمن خصائص الشعور عنده الديمومة ويعني أنه تيار متدفق باستمرار من الميلاد إلى الممات وينفي الظواهريون وجود ما يسمى باللاشعور باعتباره يتناقض ومبدأ الوجود الإنساني لأن سلوكات الإنسان كلها قصديه ذات غاية ومعني.
لا يوجد دليل يثبت بالتطابق التام بين النفس والشعور بل بالعكس أثبت العلم أن النفس أوسع من الشعور. كما تكشف التجربة النفسية بوضوح أننا نعيش الكثير من الحالات دون أن نعرف سببا لها فعدم وعي السبب لا يعني عدم وجوده. فالسبب موجود لكنه مجهول فنحن نخضع للجاذبية و لكننا لا نشعر بها.
حل المشكلة : نستنتج أن الأطروحة القائلة الحياة النفسية مطابقة للحياة الشعورية أطروحة باطلة فالشعور كوسيلة لمعرفة حياتنا النفسية و يطلعنا على كل ما يجري فيها. باطلة القول لأن الحياة النفسية لا يمكن تفسيرها إلا بأسباب شعورية غير قابلة للدفاع عنها ولا للأخذ بها.
المقالة الثامنة : هل الشعور كافٍ لمعرفة كل حياتنا النفسية ؟ جدلية .
I – طرح المشكلة : إن التعقيد الذي تتميز به الحياة النفسية ، جعلها تحظى باهتمام علماء النفس القدامى والمعاصرون ، فحاولوا دراستها وتفسير الكثير من مظاهرها . فاعتقد البعض منهم أن الشعور هو الأداة الوحيدة التي تمكننا من معرفة الحياة النفسية ، فهل يمكن التسليم بهذا الرأي ؟ أو بمعنى آخر : هل معرفتنا لحياتنا النفسية متوقفة على الشعور بها ؟
II – محاولة حل المشكلة :
1-أ- عرض الأطروحة :يذهب أنصار علم النفس التقليدي من فلاسفة وعلماء ، إلى الاعتقاد بأن الشعور هو أساس كل معرفة نفسية ، فيكفي أن يحلل المرء شعوره ليتعرف بشكلٍ واضح على كل ما يحدث في ذاته من أحوال نفسية أو ما يقوم به من أفعال ، فالشعور والنفس مترادفان ، ومن ثمّ فكل نشاط نفسي شعوري ، وما لا نشعر به فهو ليس من أنفسنا ، ولعل من ابرز المدافعين عن هذا الموقف الفيلسوفان الفرنسيان " ديكارت " الذي يرى أنه : « لا توجد حياة أخرى خارج النفس إلا الحياة الفيزيولوجية » ، وكذلك "مين دو بيران" الذي يؤكد على أنه : «لا توجد واقعة يمكن القول عنها إنها معلومة دون الشعور بها» . وهـذا كله يعني أن الشعور هو أساس الحياة النفسية ، وهو الأداة الوحيدة لمعرفتها ، ولا وجود لما يسمى بـ"اللاشعور" .
1-ب- الحجة : ويعتمد أنصار هذا الموقف على حجة مستمدة من " كوجيتو ديكارت " القائل : « أنا أفكر ، إذن أنا موجود » ، وهذا يعني أن الفكر دليل الوجود ، وان النفس البشرية لا تنقطع عن التفكير إلا إذا انعم وجودها ، وان كل ما يحدث في الذات قابل للمعرفة ، والشعور قابل للمعرفة فهو موجود ، أما اللاشعور فهو غير قابل للمعرفة ومن ثـمّ فهو غير موجود .
إذن لا وجود لحياة نفسية لا نشعر بها ، فلا نستطيع أن نقول عن الإنسان السّوي انه يشعر ببعض الأحوال ولا يشعر بأخرى مادامت الديمومة والاستمرار من خصائص الشعور .
ثم إن القول بوجود نشاط نفسي لا نشعر به معناه وجود اللاشعور ، وهذا يتناقض مع حقيقة النفس القائمة على الشعور بها ، فلا يمكن الجمع بين النقيضين الشعور واللاشعـور في نفسٍ واحدة ، بحيث لا يمكن تصور عقل لا يعقل ونفس لا تشعر .
وأخيرا ، لو كان اللاشعور موجودا لكان قابلا للملاحظة ، لكننا لا نستطيع ملاحظته داخليا عن طريق الشعور ، لأننا لا نشعر به ، ولا ملاحظته خارجيا لأنه نفسي ، و ماهو نفسي باطني وذاتي . وهذا يعني أن اللاشعور غير موجود ، و ماهو موجود نقيضه وهو الشعور .
1-جـ- النقد : ولكن الملاحظة ليست دليلا على وجود الأشياء ، حيث يمكن أن نستدل على وجود الشئ من خلال آثاره ، فلا أحد يستطيع ملاحظة الجاذبية أو التيار الكهربائي ، ورغم ذلك فأثارهما تجعلنا لا ننكر وجودهما .
ثم إن التسليم بأن الشعور هو أساس الحياة النفسية وهو الأداة الوحيدة لمعرفتها ، معناه جعل جزء من السلوك الإنساني مبهما ومجهول الأسباب ، وفي ذلك تعطيل لمبدأ السببية ، الذي هو أساس العلوم .
2-أ- عرض نقيض الأطروحة : بخلاف ما سبق ، يذهب الكثير من أنصار علم النفس المعاصر ، أن الشعور وحده ليس كافٍ لمعرفة كل خبايا النفس ومكنوناتها ، كون الحياة النفسية ليست شعورية فقط ، لذلك فالإنسان لا يستطيع – في جميع الأحوال – أن يعي ويدرك أسباب سلوكه . ولقد دافع عن ذلك طبيب الأعصاب النمساوي ومؤسس مدرسة التحليل النفسي " سيغموند فرويد " الذي يرى أن : « اللاشعور فرضية لازمة ومشروعة .. مع وجود الأدلة التي تثبت وجود اللاشعور » . فالشعور ليس هـو النفس كلها ، بل هناك جزء هام لا نتفطن – عادة – إلى وجوده رغم تأثيره المباشر على سلوكاتنا وأفكارنا وانفعالاتنا ..
2-ب- الحجة : وما يؤكد ذلك ، أن معطيات الشعور ناقصة ولا يمكنه أن يعطي لنا معرفة كافية لكل ما يجري في حياتنا النفسية ، بحيث لا نستطيع من خلاله أن نعرف الكثير من أسباب المظاهر السلوكية كالأحلام والنسيان وهفوات اللسان وزلات الأقلام .. فتلك المظاهر اللاشعورية لا يمكن معرفتها بمنهج الاستبطان ( التأمل الباطني ) القائم على الشعور ، بل نستدل على وجودها من خلال أثارها على السلوك . كما أثبت الطب النفسي أن الكثير من الأمراض والعقد والاضطرابات النفسية يمكن علاجها بالرجوع إلى الخبرات والأحداث ( كالصدمات والرغبات والغرائز .. ) المكبوتة في اللاشعور.
2جـ - النقد :لا شك أن مدرسة التحليل النفسي قد أبانت فعالية اللاشعور في الحياة النفسية ، لكن اللاشعور يبقى مجرد فرضية قد تصلح لتفسير بعض السلوكات ، غير أن المدرسة النفسية جعلتها حقيقة مؤكدة ، مما جعلها تحول مركز الثقل في الحياة النفسية من الشعور إلى اللاشعور ، الأمر الذي يجعل الإنسان أشبه بالحيوان مسيّر بجملة من الغرائز والميول المكبوتة في اللاشعور.
3- التركيب :وهكذا يتجلى بوضوح ، أن الحياة النفسية كيان معقد يتداخل فيه ما هو شعوري بما هو لاشعوري ، أي إنها بنية مركبة من الشعور واللاشعور ، فالشعور يمكننا من فهم الجانب الواعي من الحياة النفسية ، واللاشعور يمكننا من فهم الجانب اللاواعي منها .
III– حل المشكلة : وهكذا يتضح ، أن الإنسان يعيش حياة نفسية ذات جانبين : جانب شعوري يُمكِننا إدراكه والاطلاع عليه من خلال الشعور ، وجانب لاشعوري لا يمكن الكشف عنه إلا من خلال التحليل النفسي ، مما يجعلنا نقول أن الشعور وحده غير كافٍ لمعرفة كل ما يجري في حيتنا النفسية .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مقالة جدلية : "هل المنطق الصوري يعصم الفكر من الوقوع في الخطأ

مقالة فلسفية : هل الحقيقة مطلقة أم نسبية ؟

هل الفلسفة الاسلامية اصيلة ام دخيلة؟ (الطريقة الجدلية)