هل ينبغي للتسامح ان يكون مطلقا في جميع الحالات ؟



  هل ينبغي للتسامح ان يكون مطلقا في جميع الحالات ؟           
طرح المشكلة :لا نختلف اذا قلنا ان العالم عرف جملة من التوترات والاحداث على اختلاف مشاربها  وهو ما ادى بنا الى ما يعرف بظاهرة العنف واللاتسامح بدعوى الانانية وحب البقاء وسياسة الانتفاء اي نفي الاخر واثبات الذات ، اضف الى ذلك ما هو حاصل في العالم من صراعات مذهبية وعرقية وطائفية مفتعلة ، هذه الاشياء بالذات ادت الى ما يعرف بالعنف سواء ماديا او معنويا ، مما عجل بضرورة المساهمة في بناء صرح جديد يحمل مفهوما عنوانه التسامح ، وهذا ما افرز الى الوجود صراع تيارين احدهما يرى بضرورة التسامح دون شروط والاخر يرى بضرورة القيود لهذا التسامح . ولعل هذا ما ادى الى التساؤل التالي : هل التسامح المطلق مدعاة الى الفوضى وضعف في الشخصية ؟ ام ان من شروط التسامح ان يكون بلا قيود بدعوى انه واجب تفرضه جملة الاخلاق ؟ 
محاولة حل المشكلة :
يرى انصار الفكر الفلسفي السياسي المعاصر بضرورة تقييد التسامح اذ لا وجود لمطلقية التسامح ، ولعل هذه المسلمة هي من فتحت الباب امام لالاند . حيث يرى بان التسامح المطلق يؤدي الى الفوضى ثم ان كل تسامح مطلق من شانه ان يؤدي الى مفاسد مطلقة يقول السياسي اميل برودو:( لا احب  سماع كلمة التسامح ، بل يجب الحديث عن شيء اسمه الاحترام والمحبة . اما هذه الكلمة معناها الاهانة للناس والبشرية ). كما اكد نتشه : ان الاخلاق والقانون ما هما الا مبرران للضعفاء ، اما الفيلسوف انجلز فقد اعتبر التسامح مبرر وضعه الاغنياء من اجل السيطرة على الفقراء ، ونفهم من هذا اننا اذا اعتبرنا ان التسامح قيمة اخلاقية فهو نسبي تتحكم فيه شروط منها الحوار : وقبول اراء الاخر دون الغائه يقول لالاند:( كلمة التسامح تتضمن مفهوم اللياقة والشفقة واللامبالاة اذ هي دعوى الى الازدراء والتعالي والطغيان) وهذه المعاني كلها مجتمعة تدعو الى تقييد التسامح وعدم اطلاقه . وكدليل من الواقع نجد العولمة اليوم تمارس نوع من الاستعمار وتفرضه بموجب مفهوم التسامح ، كما يضاف الى هذا بعض طرق العنف المسلطة من طرف السلطة على الاشخاص سواء تعلق الامر بالجانب السياسي او الاقتصادي او الفكري ، وهذا النوع قد يتساهل معه البعض بدعوى التسامح .
النقد والمناقشة : نلاحظ ان التسامح فضيلة انسانية وشجاعة وعفة وطموح ، كما هو دعوة كل الاديان والفلسفات القديمة والحديثة في اغلبها . لكن اذا ما نحن جعلنا قيدا للتسامح فإننا نقتل هذا التسامح والا كيف نفسر تسامح مشروط يحمل في معناه تسامح ؟. ثم اننا لا ننفي دور هذا الاخير في نشر الامن والسلم خاصة اذا علمنا ان البشرية انهكتها ويلات الحروب وارهقتها الصراعات السياسوية ولا سبيل للخلاص من ذلك الا التسامح . وبهذا نبطل ادعاء كيسنجر القائل : ( في السياسة لا توجد صداقة دائمة ولا عداوة دائمة وانما توجد المصالح فقط ).  
نقيض القضية : الموقف الثاني : يرى انصار هذا الموقف بوجوب اطلاقية مبدا التسامح واعتباره مطلب انساني لا يخضع لأي قيد ، حيث مثلت هذه الاطروحة قديما مختلف الديانات السماوية والفلسفة اليونانية   خاصة مع سقراط وافلاطون ثم برز هذا المفهوم بشكل لافت للانتباه في فلسفة عصر التنوير ، والذي بدت معالمه في هذا المجال مع كانط ورسل من خلال دعوتهما الى مشروع السلام  العالمي الدائم . وخاصة ما تجسد من فكر لدى كانط في كتابه :" مشروع السلام الدائم" . ثم ميثاق هيئة الامم المتحدة واعلانها مبدا حقوق الانسان ، وايجاد اليوم العالمي للتسامح المصادف ل: السادس عشر من شهر نوفمبر من كل سنة ثم دعوة الفيلسوف والسياسي روجي غارودي الى الحوار بين مختلف الحضارات والديانات ، كما تم الاتفاق على تدعيم الديمقراطية وسيادة القانون ونبذ الديماغوجية ، ثم ان مفهوم التسامح لا يعني التنازل او التخاذل او الجبن   بل هو فضيلة من شانها ان تجعل السلام امرا ممكنا بدل الحرب والعنف . اذ لا وجود للتطور الاقتصادي في ظل الخراب والدمار ، حتى ان المجتمع لا يقوى على الرقي في ظل الصراع والتكالب الجماعي، وابرز دليل على ذلك قوله تعالى:( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي احسن فاذ الذي بينك وبينه عداوة كانه ولي حميم ). ثم ان التسامح ليس مفهوما خرافيا طوباويا بل واقع انساني يقف ضد التعصب لأنه يحمل معنى الخير، وفي الواقع نجد فكرة التسامح اللامشروط قد تطرق اليها جملة من الفلاسفة والمصلحين والساسة منهم الفيلسوف سبينوزا في كتابه :" رسالة اللاهوت" ثم تلتها دعوة جون لوك وجونستوارت مل ومن قبل هؤلاء المصلح مارتن لوثر ومن بعد ان حطت الحرب العالمية الثانية اوزارها دعي كلا من كانط ورسل الى السلام العالمي الدائم يقول كانط :( الدولة وسيلة تخدم الافراد وليست غاية) . اما رسل فقد اكد بان الاحقاد التي توارثتها الشعوب سببها الاطماع في السلطة .         
النقد والمناقشة : لكن اذا اطلقنا العنان لمفهوم التسامحاصبح هذا التسامحقضية صعبة المنال ، ذلك لان الشخص المتسامح قد يقع ضحية اللاتسامح ولاسترجاع حقوقه الضائعة يجبان يكون غير متسامح . والا كيف نفسر قوله تعالى : ( ولكم في القصاص حياة يا اولي الالباب )؟.هذا ويلاحظ ان دعاة الديمقراطية هم انفسهم من يشن الحرب ويمارس العنف بمختلف انواعه .
التركيب :وعموما نخلص الى ان جميع الديانات والفلسفات تلتقي حول فكرة واحدة مفادها التوصل الى نوع انساني الغالب فيه حب الانسان والسمو الى فكرة الانسان الكوني ، ولعل هذا ما جعل الحوار يقوم على المساواة وليس التفاضل ، اذ ليس من السهل الحديث عن التسامح ونحن لا ندرك مفهوم اللاتسامح . فهذا الاسلام اعطى لنا افضل صورة للبشرية بعنوان التسامح تجسدت في مبدا الشورى .
الخاتمة : واخيرا وللفصل في سؤالنا نستنتج ان الاختلاف امر طبيعي موجود في الحياة كما هو اسلوب من اساليب التفكير التي يجب ان تقوم على احترام الاخر وعدم نفيه ، وهذا قول امير المؤمنين ابي حفص عمر ابن الخطابرضي الله عنه :(رايي صح يحتمل الخطأ ورايك خطا يحتمل الصواب) . من هذا نخلص الى القول بان التسامح في مواطنه امر ضروري كالعفو عند المقدرة ما لم يؤدي الى الاستكانة والتنازل عن الحق ، كما قد يكون هذا التسامح مطية للتنازلات والذل . مما يجعل الاخر يعتقد منا الضعف ليدعي هو القوة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مقالة جدلية : "هل المنطق الصوري يعصم الفكر من الوقوع في الخطأ

مقالة فلسفية : هل الحقيقة مطلقة أم نسبية ؟

هل الفلسفة الاسلامية اصيلة ام دخيلة؟ (الطريقة الجدلية)