هل يمكن للعلوم الإنسانية أن تكون موضوعا للدراسة العلمية ؟



هل يمكن للعلوم الإنسانية  أن تكون موضوعا للدراسة العلمية ؟
طرح المشكلة : المقدمة :لقد أدى الاختلاف الموجود في المجتمعات الحديثة إلى تحويل الإنسان إلى ظاهرة قابلة للدراسة العلمية الموضوعية  إلا أن تميز الإنسان واختلافه عن الظواهر الطبيعية جعل العلوم الإنسانية تعرف مشاكل ابستيمولوجية من نوع خاص ومن ثمة بدا العلماء يتساءلون حول مدى قدرة هذه العلوم على بلوغ دقة العلوم الطبيعية . فمنهم من اقر بإمكانية التجريب على الظاهرة الإنسانية ، ومنهم من نفى ذلك بدعوى أن العلوم الإنسانية علوم على منوالها فكان من أراءهم أن برز إلى الوجود السؤال التالي : هل يمكن تطبيق المنهج التجريبي على العلوم الإنسانية ؟ وما هي العوائق التي تعترض التجربة بالمفهوم المستعمل في هذه العلوم ؟. وكيف لنا أن نتجاوز هذه العوائق ؟.
الموقف الأول : عوائق تطبيق المنهج التجريبي على العلوم الإنسانية : يرى جملة من الفلاسفة بأنه لا يمكن تطبيق المنهج التجريبي على العلوم الإنسانية . وذلك لوجود عوائق علمية " ابستيمولوجية " تحول دون ذلك ، وبما أن العلوم الإنسانية ثلاث أنواع ، فيجب دراسة كل علم على حدا : فمثلا الحادثةالتاريخيةفريدة من نوعها فهي تجري في زمن معين ومكان معين وبالتالي فهي لا تتكرر ومنه التاريخ غير قابل للدراسة العلمية وغير قابل للتكميم ، كما أن المؤرخ لا يمكنه التأكد من صحة افتراضه عن طريق التجربة العلمية ، فمثلا لا يستطيع أن يحدث حربا تجريبية حتى يثبت فرضيته  واستحالت التجارب تعني استحالت القوانين ، وبالتالي صعوبة التنبؤ بحدوثها مستقبلا .كما يصعب على المؤرخ تحديد البدايات التاريخية مما يجعل الحوادث التاريخية عرضة للتزييف . 
أما في علم الاجتماع : فالظاهرة الاجتماعية ليست خالصة فهي تنطوي على خصائص بيولوجية وأخرى نفسية وأخرى تاريخية ،فهي ليست مثل الظواهر الطبيعية لأنها ظاهرة بشرية متصلة بحياة الإنسان ، وكل ما هو متصل يصعب إخضاعه للتجريب ،فمثلا ظاهرة الطلاق ظاهرة اجتماعية تتداخل في إحداثها أسباب مختلفة بحيث يصعب الفصل بين هذه الأسباب . وهذا يعني أنها خاصة وليست عامة لذلك لا يستطيع عالم الاجتماع أن يكون موضوعيا لأنه يحمل غايات ذاتية وكل ما هو ذاتي فهو معقد تتدخل في تكاليفه عناصر متشابكة مما يصعب الوصول الى النتائج وقوننتها لأنها عبارة عن ظواهر كيفية يصعب تكميمها يقول جوناستوارت مل :"إن الظواهر المعقدة والنتائج التي ترجع الى علل وأسباب متداخلة لا تصلح أن تكون موضوعا حقيقيا للاستقراء العلمي المبني على الملاحظة والتجربة ".
أما بخصوص الحادثة النفسية فيؤكد علماء النفس أن الحادثة النفسية حادثة لا تعرف السكون ولا تبقى على حالها بحيث تتداخل في تكوينها حالات وأحوال وانفعالات نترجمها بواسطة الشعور وما دامت متداخلة فانه يصعب تطبيق المنهج التجريبي عليها فمثلا : دراسة الإدراك كظاهرة عقلية يصعب فصله عن الاحساس والذكاء والذاكرة والخيال والانتباه والإرادة ومن ثمة فان الحادثة النفسية فريدة من نوعها ، ولا تقبل التكرار والنتائج المستخلصة بعد الدراسة تكون صبغة ذاتية لا يمكن تعميمها . لكن  كيف استطاع أصحاب العلوم الإنسانية تحقيق نتائج علمية معتبرة  في وجود هذه العوائق؟.
النقد المناقشة:من الملاحظ  أن هذه العوائق الابستيمولوجية إنما ترجع الى طبيعة الموضوع وبالتالي يمكن تكييف المنهج العلمي بما يوافق خصائص الظاهرة الإنسانية. فمثلا التاريخ يساعد الإنسان في دراسة الماضي والتطلع على مخلفات الأجداد وسياستهم وديانتهم . أما في ما يخص علم الاجتماع فان الإنسان أدرك بفضل الدراسات الاجتماعية بأنه خلق ليتعارف مع غيره وينسجم معهم كما ، أن الدراسات الاجتماعية الميدانية سمحت في توسيع مفهوم النسبية الذي كان ينحصر في الفيزياء ، أما على مستوى دراسة علم النفس . فانه ينطوي على عدة فوائد منها تحرير الدراسة النفسية من الاعتبارات الفلسفية والخرافات الميتافيزيقية ، كما أن الإنسان استطاع أن يدرك ما يجري في ذاته من أحوال وميول وأهوى إذ السيكولوجيا أصبحت علم قائم بذاته يقوم على الملاحظة والتحليل .    
نقيض القضية: الموقف الثاني : في حين يرى البعض الأخر من الفلاسفة انه يمكن تطبيق المنهج التجريبي على الظاهرة الإنسانية لان هذه العوائق الابستيمولوجية لم تقف عائقا أمام اجتهاد العلماء ، حيث توصل العلماء الى طرائق في البحث والى مفاهيم منهجية أعطتها قيمتها العلمية منها مثلا : فيالتاريخما توصل إليهابن خلدونومن تلاه من المؤرخين الأوروبيين فيالقرن"19" من إعطاء التاريخ طابع العلمية وذلك بواسطة منهجية خاصة تسمى بالدراسات التاريخية المقارنة ، حيث تقوم على جمع الآثار والوثائق منها المصادر الإرادية وغير الإرادية وهي التي يحتفظ بها الناس لتكون شاهدا عليهم كالرواية وكتب التاريخ . ثم نقد هذه الآثار والوثائق من اجل تحليلها ، ولكي نتأكد من صدق هذه الوثائق نلجأ الى الطريقة النقدية وهينوعين: نقد خارجي ويتناول شكل الوثيقة والمادة ونوع الورقة والحبر  والثاني نقد داخلي ويتناول مضمون الوثيقة أي دراسة نص الوثيقة وما تحمله من معان من اجل الكشف عن الظروف النفسية والسياسية والدينية التي أدت الى كتابة هذه الوثيقة كما يمكننا أن نعمل على إعادة بناء الحادثة التاريخية وترتيبها . أما على مستوى علمالنفس فقد تمكن العلماء من إعطاء الحادثة النفسية قيمة علمية ظهرت في مناهج عدة عرفها علم النفس المنهج التأملي "الاستبطاني " وهو منهج يتم باستخراج باطن الذات وأحوالها النفسية بواسطة الشعور  أي أن الذات تصبح دارسة ومدروسة في نفس الوقت ومن رواد هذا الموقف نجد "براغسون ، ديكارتمنهج التحليل النفسي : حيث ظهر هذا المنهج مع العالم"فرويد"يقوم على التداعي الحر  كما يقوم أساسا على اكتشاف اللاشعور. ويعتبر الحياة النفسية تقوم على الغرائز. أما المنهج السلوكي الذي ظهر مع "بافلوف و واطسن " حيث يقوم هذا المنهج على اكتشاف اللاشعور والمنعكس الشرطي ، وبهذا تمكنا بافلوف و واطسن من دراسة السلوك دراسة علمية موضوعية  وفي علم الاجتماع نلاحظ أندوركايم أعطى الحادثة الاجتماعية مصداقيتها العلمية من خلال دراسة خاصة تتناسب وطبيعة الحادثة . بحيث اعتبرها ظاهرة اجتماعية تلقائية طبيعية عامة منتشرة تتداخل في إحداثها عوامل تاريخية ، فوضع أسلوب يدرس الظاهرة يقوم على الملاحظة ووضع الفروض حيث قال : " يجب أن نعالج الظواهر على أنها أشياء " . والدليل على مصدقيه هذا العلم ظهور علم الإحصاء .
النقد: والمناقشة :لعله من بين الانتقادات التي وجهة الى القائلين بعلميةالتاريخ ، انه لم يعد المؤرخ يرى في الموضوعية بالمفهوم التقليدي غاية قابلة للتحقيق ذلك لان التجرد من العواطف في دراسة التاريخ أمر صعب المنال والأخذ بالمبادرة الشخصية أمر ضروري ،لان المؤرخ قبل كل شيء هو إنسان . أما الانتقادات التي وجهة للقائلين بعلمية علم الاجتماع فان هؤلاء لم يميزوا بين الظواهر الفيزيائية والظواهر الاجتماعية ، كما أنهم لم يميزوا بين الأشياء الخالية من الشعور والأشياء التي تنطوي على الشعور. أما الانتقادات التي وجهة لأنصارعلم النفس فان القوانين التي توصلوا إليها ليست دساتير بل هي مجرد تعميمات . إذ الحادثة النفسية ليست مجرد سلوك آلي يجمع المنبه بالاستجابة  وهذا يعني أن الحادثة النفسية شعور قبل أن تكون سلوكا .كما ادعىبافلوف و واطسن.
التركيب :وعموما فإننا نقر وعلى الرغم من وجود بعض العوائق إلا أن الباحثين في هذا المجال تجاوزوا الكثير من العراقيل والصعوبات بفضل أمانتهم العلمية لذا قال جورج سارطون لولا الحضارة الإسلامية لتأخرت الحضارة الغربية بضعة قرون ". وهذا دليل على موضوعية الباحث التاريخي ". وما يمكن أن نستنتجه هو أن العلوم الإنسانية استطاعت أن تسلك لنفسها منهجا يليق بها ، وهوما مكنها من تجاوز العوائق والعراقيل . 
الخاتمة : وأخيرا يمكننا أن نقول أن العلوم الطبيعية ، ساعدت العلوم الإنسانية في البحث على التطور ، وبالتالي البحث على مناهج تتميز عن المنهج التجريبي وتكون مكيفة حسب خصوصيات كل ظاهرة .وهكذا تظل الإشكاليات مطروحة ليس بالضرورة تشكيكا في القيمة العلمية وإنما يتعلق الأمر بنقاش ابستيمولوجي من شانه أن يغني العلوم الإنسانية  ويدفع بها إلا أن تتوخى الدقة .لان جميع الصعوبات تتمثل في طبيعة الظاهرة الإنسانية باعتبارها ظاهرة معقدة وختاما نصل الى أن الدراسات الإنسانية دراسة خاصة لأنها تدرس الإنسان ذلك الكائن اللغز الذي يصعب إخضاعه للمنهج العلمي وتبقى هذه العلوم في حاجة الى بحث وازدهار حتى تأخذ طابع العلمية . 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مقالة جدلية : "هل المنطق الصوري يعصم الفكر من الوقوع في الخطأ

مقالة فلسفية : هل الحقيقة مطلقة أم نسبية ؟

هل الفلسفة الاسلامية اصيلة ام دخيلة؟ (الطريقة الجدلية)